فصل: تفسير الآية رقم (217):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
1- {كان الناس أمة واحدة} فيه إيجاز بالحذف أي كانوا أمة واحدة على الإيمان متمسكين بالحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين، ودل على هذا المحذوف قوله: ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
2- {أم حسبتم} أم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والاستبعاد.
3- {ولما يأتكم} {لما} تدل على النفي مع توقع وقوع المنفي، والمعنى: لما ينزل بكم مثل ما نزل بمن قبلكم، وسينزل فإن نزل فاصبروا، قال المبرد: إذا قال القائل: لم يأتني زيد، فهو نفي لقولك أتاك زيد؟ وإذا قال: لما يأتني فمعناه أنه لم يأتني بعد وأنا أتوقعه، وعلى هذا يكون إتيان الشدائد على المؤمنين متوقعا منتظرًا.
4- {ألا إن نصر الله قريب} في هذه الجملة عدة مؤكدات تدل على تحقق النصر أولا:
بدء الجملة بأداة الاستفتاح ألا التي تفيد التأكيد، ثانيا: ذكر إن الدالة على التوكيد أيضا، ثالثا: إيثار الجملة الإسمية على الفعلية فلم يقل ستنصرون والتعبير بالجملة الإسمية يفيد التأكيد رابعا: إضافة النصر إلى رب العالمين القادر على كل شيء.
5- {وهو كره لكم} وضع المصدر موضع اسم المفعول مكروه للمبالغة، كقول الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار

6- {وعسى أن تكرهوا شيئا} {وعسى أن تحبوا شيئا} بين الجملتين من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة فقد قابل بين الكراهية والحب، وبين الخير والشر.
7- {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} فيه من البديع ما يسمى بطباق السلب. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}.
قرئ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال} ببناء كَتَب للفاعل؛ وهو ضمير الله تعالى، ونصبِ القِتَالِ.
قال القرطبي: وقرأ قومٌ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقَتْلُ}؛ قال الشاعر: الخفيف:
كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقَتَالُ عَلَيْنَا ** وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذُيُولِ

قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ} هذه واو الحال، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، والظاهر أنَّ هو عائدٌ على القتال.
وقيل: يعود على المصدر المفهوم من كتب، أي: وكتبه وفرضه.
وقرأ الجمهور {كُرْهٌ} بضمِّ الكاف، وهو الكراهية بدليل قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا} ثم فيه وجهان:
أحدهما: أنَّ وضع المصدر موضع الوصف سائغٌ كقول الخنساء: البسيط:
.............. ** فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَادْبَارُ

والثاني: أن يكون فعلًا بمعنى مفعولٍ، كالخبر بمعنى الخبور وهو مكروهٌ لكم.
وقرأ السُّلميُّ بفتحها.
فقيل: هما بمعنًى واحدٍ، أي: مصدران كالضَّعف والضُّعف، قاله الزَّجاج وتبعه الزمخشري.
وقيل: المضمومُ اسمُ مفعولٍ، والمفتوح المصدر.
وقيل: المفتوح بمعنى الإكراه، قاله الزممخشري في توجيه قراءة السُّلميِّ، إلاَّ أنَّ هذا من باب مجيء المصدر على حذف الزوائد، وهو لا ينقاس.
وقيل: المفتوح ما أُكره عليه المرء، والمضموم ما كرهه هو.
فإن كان الكَرْهُ، والكُرْهُ مصدرًا، فلابد من تأويل يجوز معه الإخبار به عن هو، وذلك التأويل: إمَّا على حذف مضافٍ، أي: والقتال ذو كرهٍ، أو على المبالغة، أو على وقوعه موقع اسم المفعول.
وإن قلنا: إنَّ {كُرْهًا} بالضَّمِّ اسم مفعولٍ، فلا يحتاج إلى شيء من ذلك.
و{لَكُمْ} في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفة لكره، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي: كرهٌ كائنٌ.
قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُوا}، عَسَى فعلٌ ماضٍ، نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإشفاق، وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبر، ولا يكون خبرُها إلا فِعلًا مضارعًا مقرونًا بأَنْ، وقد يجيءُ اسمًا صريحًا؛ كقوله الرجز:
أَكْثَرْتَ فِي العَذْلِ مُلِحًّا دَائِمَا ** لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا

وقالت الزَّبَّاءُ: عَسَى الغُوَيْرُ أَبُؤُسَا وقد يَتَجَرَّد خبرها مِنْ أَنْ؛ كقوله: الطويل:
عَسَى فَرَجٌ يأْتِي بهِ اللَّهُ إِنَّهُ ** لَهُ كُلَّ يَوْمٍ في خَلِيقَتِهِ أَمْرُ

وقال آخر: الوافر:
عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ ** يَكُونُ وَرَاءَه فَرَجٌ قَرِيبٌ

وقال آخر: الوافر:
فَأَمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولَكِن ** عَسَى يغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ

وتكونُ تامّة، إذا أُسندَتْ إلى أَنْ أَوْ أنَّ؛ لأنهما يَسدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها، والأصحُّ أنها فِعْلٌ، لا حرفٌ، لاتصالِ الضمائر البارزةٍ المرفوعةِ بها.
قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] ويرتفع الاسم بعده فقوله: عَسَى زَيْدٌ معناه: قرب ووزنُها فَعَل بفتح العين، ويجوز كسر عينها، إذا أسندت لضمير متكلم، أو مخاطبٍ أو نون إناثٍ وهي قراءةُ نافعٍ، وستأتي إن شاء الله تعالى ولا تتصرَّفُ بل تلزمُ المضيَّ.
والفرقُ بين الإشفاق والترجِّي بها في المعنى:
أنَّ الترجِّي في المحبوبات، والإشفاقَ في المَكروهات.
وعَسَى من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإشفاق محالانِ في حقَّه.
وقيل: كلُّ عَسَى في القرآن للتحقيق، يعنُون الوقوعَ، إِلاَّ قوله تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] وهي في هذه الآية ليسَت ناقصة؛ فتحتاج إلى خبرٍ، بل تامةٌ، لأنها أُسْندت إلى أَنْ، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مَسدَّ الخبرين بعدها.
وزعم الحُوفيُّ أَنَّ: {أَنْ تَكْرَهُوا} في محلِّ نصبٍ، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد.
قوله: {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وإنْ كانَتْ من النكرة بغيرِ شرطٍ من الشروط المعروفة قليلةً.
والثاني: أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ ل {شَيْئًا} وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة؛ لأنَّ صورتها صورة الحالِ، فكما تدخل الواو عليها حاليةً، تدخلُ عليها صفةً، قاله أبو البقاء ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشريّ في قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] فجعل {وَلَهَا كِتَابٌ} صفةً لقريةٍ، وقل: وكانَ القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذا الواو بينهما؛ كقوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] وإنما توسَّطَت؛ لتأكيد لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ، كما يُقالُ في الحالِ: جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ، وعليه ثوبٌ.
وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا، والزمخشريُّ هناك، هو رأيُ ابن جِنّي، وسائرُ النحاة يُخالفونه.
والشَّرُّ هو السُّوء أصله: من شَرَرْتُ الشيء إذا بسطتهُ يقال: شَرَرْتُ اللحم، والثوب: إذا بسطته، ليجف؛ ومنه قوله: الوافر:
وَحَتَّى أُشُرَّتْ بِالأَكُفِّ المَصَاحِفُ

والشَّررُ: هو اللَّهب لانبساطه فعلى هذا الشَّرُّ انبساطُ الأشياء الضارةِ، وقوله: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فالمقصود الترغيبُ العظيمُ في الجهادِ، وكأنه تعالى قال يا أيها العبد، اعلمْ أَنَّ علمي أكملُ من علمك، فكُنْ مشتغلًا بطاعتي، ولا تلتفتْ إلى مُقتضى طبعك، فهي كقوله في جواب الملائكة: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (217):

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبرهم سبحانه وتعالى بإيجاب القتال عليهم مرسلًا في جميع الأوقات وكان قد أمرهم فيما مضى بقتلهم حيث تقفوهم ثم قيد عليهم في القتال في المسجد الحرام كان بحيث يسأل هنا: هل الأمر في الحرم والحرام كما مضى أم لا؟ وكان المشركون قد نسبوهم في سرية عبد الله بن جحش التي قتلوا فيها من المشركين عمرو بن الحضرمي إلى التعدي بالقتال في الشهر الحرام واشتد تعييرهم لهم به فكان موضع السؤال: هل سألوا عما عيرهم به الكفار من ذلك؟ فقال مخبرًا عن سؤالهم مبنيًا لحالهم: {يسئلونك} أي أهل الإسلام لاسيما أهل سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنهم {عن الشهر الحرام} فلم يعين الشهر وهو رجب ليكون أعم، وسميت الحرم لتعظيم حرمتها حتى حرموا القتال فيها، فأبهم المراد من السؤال ليكون للنفس إليه التفات ثم بينه ببدل الاشتمال في قوله: {قتال فيه} ثم أمر بالجواب في قوله: {قل قتال فيه} أيّ قتال كان فالمسوغ العموم.
ولما كان مطلق القتال فيه في زعمهم لا يجوز حتى ولا لمستحق القتل وكان في الواقع القتال عدوانًا فيه أكبر منه في غيره قال: {كبير} أي في الجملة.
ولما كان من المعلوم أن المؤمنين في غاية السعي في تسهيل سبيل الله فليسوا من الصد عنه ولا من الكفر في شيء لم يشكل أن ما بعده كلام مبتدأ هو للكفار وهو قوله: {وصد} أيّ صد كان {عن سبيل الله} الملك الذي له الأمر كله أي الذي هو دينه الموصل إليه أي إلى رضوانه، أو البيت الحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج سبيل الله. قال الحرالي: والصد صرف إلى ناحية بإعراض وتكره، والسبيل طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك منهجه {وكفر به} أيّ كفر كان، أي بالدين، أو بذلك الصد أي بسببه فإنه كفر إلى كفرهم، وحذف الخبر لدلالة ما بعده عليه دلالة بينة لمن أمعن النظر وهو أكبر أي من القتال في الشهر الحرام، والتقييد فيما يأتي بقوله: {عند الله} يدل على ما فهمته من أن المراد بقوله: {كبير} في زعمهم وفي الجملة لا أنه من الكبائر. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اختلفوا في أن هذا السائل أكان من المسلمين أو من الكافرين والقائلون بأنه من المسلمين فريقان الأول: الذين قالوا إنه تعالى لما كتب عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الحرام والمسجد الحرام أعظم الحرمة في المنع من القتال لم يبعد عندهم أن يكون الأمر بالقتال مقيدًا بأن يكون في غير هذا الزمان وفي غير هذا المكان فدعاهم ذلك إلى أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أيحل لنا قتالهم في هذا الشهر وفي هذا الموضع؟ فنزلت الآية، فعلى هذا الوجه الظاهر أن هذا السؤال كان من المسلمين.
الفريق الثاني: وهم أكثر المفسرين: رووا عن ابن عباس أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين، وبعد سبعة عشر شهرًا من مقدمه المدينة في ثمانية رهط، وكتب له كتابًا وعهدًا ودفعه إليه، وأمره أن يفتحه بعد منزلتين، ويقرأه على أصحابه، ويعمل بما فيه، فإذا فيه: أما بعد فسر على بركة الله تعالى بمن اتبعك حتى تنزل بطن نخل، فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخير، فقال عبد الله: سمعًا وطاعة لأمره فقال لأصحابه: من أحب منكم الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمره، ومن أحب التخلف فليتخلف فمضى حتى بلغ بطن نخل بين مكة والطائف، فمر عليهم عمرو بن الحضرمي وثلاثة معه، فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنهم قوم عمار، ثم أتى واقد بن عبد الله الحنظلي وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا اثنين وساقوا العير بما فيه حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضجت قريش وقالوا: قد استحل محمد الشهر الحرام، شهر يأمن فيه الخائف فيسفك فيه الدماء، والمسلمون أيضًا قد استبعدوا ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: «إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام»، وقال عبد الله بن جحش يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى، فنزلت هذه الآية، فأخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام الغنيمة، وعلى هذا التقدير فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين لوجوه أحدها: أن أكثر الحاضرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين وثانيها: أن ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاب مع المسلمين أما ما قبل هذه الآية فقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} وهو خطاب مع المسلمين وقوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} {ويسألونك عن اليتامى} [البقرة: 219، 220] وثالثها: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: ما رأيت قومًا كانوا خيرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن منها {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام}.
والقول الثاني: أن هذا السؤال كان من الكفار قالوا: سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حلال فتكوا به واستحلوا قتاله فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ولكن الصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام والكفر به أكبر من ذلك القتال {وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} فبين تعالى أن غرضهم من هذا السؤال أن يقاتلوا المسلمين ثم أنزل الله تعالى بعده قوله: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فصرح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائز. اهـ.
وقال ابن عاشور بعد أن ذكر ما يتعلق بسرية عبد الله بن جحش:
فإذا صح ذلك كان نزول هذه الآية قبل نزول آية: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [البقرة: 216] وآية: {وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم} [البقرة: 190] بمدة طويلة فلما نزلت الآيتان بعد هذه، كان وضعهما في التلاوة قبلها بتوقيف خاص لتكون هذه الآية إكمالًا لما اشتملت عليه الآيتان الأخريان، وهذا له نظائر في كثير من الآيات باعتبار النزول والتلاوة. والأظهر عندي أن هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها وأنها تكملة وتأكيد لآية: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} [البقرة: 194].
والسؤال المذكور هنا هو سؤال المشركين النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحديبية، هل يقاتل في الشهر الحرام كما تقدم عند قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام}. وهذا هو المناسب لقوله هنا {وصد عن سبيل الله} إلخ وقيل: سؤال المشركين عن قتال سرية عبد الله بن جحش. فالجملة استئناف ابتدائي، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام ومناسبة موقعها عقب آية: {كتب عليكم القتال} [البقرة: 216] ظاهرة. اهـ.
قوله تعالى: {قِتَالٍ فِيهِ} خفض على البدل من الشهر الحرام، وهذا يسمى بدل الاشتمال، كقولك: أعجبني زيد علمه ونفعني زيد كلامه وسرق زيد ماله، وسلب زيد ثوابه، قال تعالى: {قُتِلَ أصحاب الأخدود النار ذَاتِ الوقود} [البروج: 4، 5] وقال بعضهم الخفض في قتال على تكرير العامل والتقدير: يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه، وهكذا هو في قراءة ابن مسعود والربيع، ونظيره قوله تعالى: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] وقرأ عكرمة {قَتْلَ فِيهِ}. اهـ.
والتعريف في {الشهر الحرام} تعريف الجنس، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في قوله: {قتال فيه}، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله: {فيه} يجعلها في قوة المعرفة.
فالمراد بيان أيِّ شهر كان من الأشهر الحُرم وأيِّ قتال، فإن كان السؤال إنكاريًا من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر، وإن كان استفسارًا من المسلمين فكذلك، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهْوَ لا يختص بشهر دون شهر.
وإنما اختير طريق الإبدال هنا وكان مقتضى الظاهر أن يقال: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام لأَجل الاهتمام بالشهر الحرام تنبيهًا على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال؟ لاَ لأَجل القتال هل يقع في الشهر وهما متآيلان، لكن التقديم لقضاء حق الاهتمام، وهذه نكتة لإبدال عطفِ البيان تنفع في مواقع كثيرة، على أن في طريق بدل الاشتمال تشويقًا بارتكاب الإجمال ثم التفصيل. اهـ.
قال الفخر:
فإن قيل: لم نكر القتال في قوله تعالى: {قِتَالٌ فِيهِ} ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله تعالى: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْرًا} [الشرح: 6].
قلنا: نعم ما ذكرتم أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني إذن غير الأول والقوم أرادوا بقولهم: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش، فقال تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيرًا ليس هو هذا القتال الذي سألتم عنه، بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الكفر فكيف يكون هذا من الكبائر، إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة إلا أنه تعالى ما صرح بهذا الكلام لئلا تضيق قلوبهم بل أبهم الكلام بحيث يكون ظاهره كالموهم لما أرادوه، وباطنه يكون موافقًا للحق، وهذا إنما حصل بأن ذكر هذين اللفظين على سبيل التنكير، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة الجليلة، فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولوا الألباب. اهـ.